فصل: سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك مسعود وخلع محمد:

لما توفي يمين الدولة كان ابنه مسعود بأصبهان، فلما بلغه الخبر سار إلى خراسان، واستخلف بأصبهان بعض أصحابه في طائفة من العسكر، فحين فارقها ثار أهلها بالوالي عليهم فقتلوه، وقتلوا من معه من الجند.
وأتى مسعوداً الخبر، فعاد إليها، وحصرها، وفتحها عنوة، وقتل فيها فأكثر، ونهب الأموال، واستخلف فيها رجلاً كافياً، وكتب إلى أخيه محمد يعلمه بذلك، وأنه لا يريد من البلاد التي وصى له أبوه بها شيئاً، وأنه يكتفي بما فتحه من بلاد طبرستان، وبلد الجبل، وأصبهان، وغيرها، ويطلب منه الموافقة، وأن يقدمه في الخطبة على نفسه، فأجابه محمد جواب مغالط.
وكان مسعود قد وصل إلى الري، فأحسن إلى أهلها، وسار منها إلى نيسابور ففعل مثل ذلك، وأما محمد فإنه أخذ على عسكره العهود والمواثيق على المناصحة له، والشد منه، وسار في عساكره إلى أخيه مسعود محارباً له، وكان بعض عساكره يميل إلى أخيه مسعود لكبره وشجاعته، ولأنه قد اعتاد التقدم على الجيوش، وفتح البلاد، وبعضها يخافه لقوة نفسه.
وكان محمد قد جعل مقدم جيشه عمه يوسف بن سبكتكين، فلما هم بالركوب، في داره بغزنة، ليسير سقطت قلنسونه من رأسه، فتطير الناس من ذلك، وأرسل إليه التونتاش، صاحب خوارزم، وكان من أعيان أصحاب أبيه محمود، يشير عليه بموافقة أخيه وترك مخالفته، فلم يصغ إلى قوله، وسار فوصل إلى تكناباذ أول يوم رمضان، وأقام إلى العيد، فعيد هناك، فلما كان ليلة الثلاثاء، ثالث شوال، ثار به جنده، فأخذوه وقيدوه وحبسوه، وكان مشغولاً بالشراب واللعب عن تدبير المملكة، والنظر في أحوال الجند والرعايا.
وكان الذي سعى في خذلانه علي خويشاوند، صاحب أبيه، وأعانه على ذلك عمه يوسف بن سبكتكين. فلما قبضوا عليه نادوا بشعار أخيه مسعود، ورفعوا محمداً إلى قلعة تكناباذ، وكتبوا إلى مسعود بالحال. فلما وصل إلى هراة لقيته العساكر مع الحاجب علي خويشاوند، فلما لقيه الحاجب علي قبض عليه وقتله، وقبض بعد ذلك أيضاً على عمه يوسف، وهذه عاقبة الغدر، وهما سعيا له في رد الملك إليه، وقبض أيضاً على جماعة من أعيان القواد في أوقات متفرقة، وكان اجتماع الملك له واتفاق الكلمة عليه في ذي القعدة، وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن الميمندي الذي كان وزير أبيه من محبسه، واستوزره، ورد الأمر إليه، وكان أبوه قد قبض عليه سنة اثنتي عشرة وأربعمائة لأمور أنكرها، وقيل شره في ماله، وأخذ منه لما قبض عليه مالاً وأعراضاً بقيمة خمسة آلاف ألف دينار.
وكان وصول مسعود إلى غزنة ثامن جمادى الآخرة من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فلما وصل إليها وثبت ملكه بها أتته رسل الملوك من سائر الأقطار إلى بابه، واجتمع له ملك خراسان، وغزنة، وبلاد الهند والسند، وسجستان، وكرمان، ومكران، والري، وأصبهان، وبلد الجبل، وغير ذلك، وعظم سلطانه وخيف جانبه.

.ذكر بعض سيرة محمود بن سبكتكين:

كان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عاقلاً، ديناً، خيراً، عنده علم ومعرفة، وصنف له كثير من الكتب في فنون العلوم، وقصده العلماء من أقطار البلاد، وكان يكرمهم، ويقبل عليهم، ويعظمهم، ويحسن إليهم، وكان عادلاً، كثير الإحسان إلى رعيته والرفق بهم، كثير الغزوات، ملازماً للجهاد، وفتوحه مشهورة مذكورة، وقد ذكرنا منها ما وصل إلينا على بعد الدهر، وفيه ما يستدل به على بذل نفسه لله تعالى واهتمامه بالجهاد.
ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق، فمن ذلك أنه بلغه أن إنساناً من نيسابور كثير المال، عظيم الغنى، فأحضره إلى غزنة وقال له: بلغنا أنك قرمطي، فقال: لست بقرمطي، ولي مال يؤخذ منه ما يراد وأعفى من هذا الاسم، فأخذ منه مالاً، وكتب معه كتاباً بصحة اعتقاده.
وجدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا، والرشيد، وأحسن عمارته، وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم عن ذلك.
وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، في المنام وهو يقول له: إلى متى هذا؟ فعلم أنه يريد أمر المشهد، فأمر بعمارته.
وكان ربعة مليح اللون، حسن الوجه، صغير العينين، أحمر الشعر، وكان ابنه محمد يشبهه، وكان ابنه مسعود ممتليء البدن، طويلاً.

.ذكر عودة علاء الدولة إلى أصبهان وغيرها وما كان منه:

لما مات محمود بن سبكتكين طمع فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه في الري، وكان قد هرب منها لما ملكها عسكر يمين الدولة محمود، فقصد قصران، وهي حصينة، فامتنع بها. فلما توفي يمين الدولة وعاد ابنه مسعود إلى خراسان جمع فناخسرو هذا جمعاً من الديلم والأكراد وغيرهم، وقصدوا الريي، فخرج إليه نائب مسعود بها ومن معه من العسكر، فقاتلوه، فانهزم منهم وعاد إلى بلده، وقتل جماعة من عسكره.
ثم إن علاء الدولة بن كاكويه، لما بلغه وفاة يمين الدولة، كان بخوستان عند الملك أبي كاليجار، كما ذكرنا، وقد أيس من نصره، وتفرق بعض من عنده من عسكره وأصحابه، والباقون على عزم مفارقته، وخائف من مسعود أن يسير إليه من أصبهان فلا يقوى هو وأبو كاليجار به، فأتاه من الفرج بموت يمين الدولة ما لم يكن في حسابه، فلما سمع الخبر سار إلى أصبهان فملكها، وملك همذان، وغيرهما من البلاد، وسار إلى الري فملكها، وامتد إلى أعمال أنوشروان بن منوجهر بن قابوس، فأخذ منه خوار الري ودنباوند.
فكتب أنوشروان إلى مسعود يهنئه بالملك، وسأله تقرير الذي عليه بمال يحمله، فأجابه إلى ذلك، وسير إليه عسكراً من خراسان، فساروا إلى دنباوند فاستعادوها، وساروا نحو الري، فأتاهم المدد والعسكر، وممن أتاهم علي بن عمران، فكثر جمعهم، فحصروا الري، وبها علاء الدولة، فاشتد القتال في بعض الأيام، فدخل العسكر الري قهراً، والفيلة معهم، فقتل جماعة من أهل الري والديلم، ونهب المدينة، وانهزم علاء الدولة، وتبعه بعض العسكر وجرحه في رأسه وكتفه، فألقى لهم دنانير كانت معه، فاشتغلوا بها عنه، فنجا، وسار إلى قلعة فردجان، على خمسة عشر فرسخاً من همذان، فأقام بها إلى أن برأ من جراحته، وكان من أمره ما نذكر، إن شاء الله تعالى، وخطب بالري وأعمال أنوشروان لمسعود، فعظم شأنه.

.ذكر الحرب بين عسكر جلال الدولة وأبي كاليجار:

في هذه السنة، في شوال، سير جلال الدولة عسكراً إلى المذار، وبها عسكر أبي كاليجار، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر أبي كاليجار، واستولى أصحاب جلال الدولة على المذار، وعملوا بأهلها كل محظور.
فلما سمع أبو كاليجار الخبر سير إليهم عسكراً كثيفاً، فاقتتلوا بظاهر البلد، فانهزم عسكر جلال الدولة، وقتل أكثرهم، وثار أهل البلد بغلمانهم فقتلوهم، ونهبوا أموالهم لقبيح سيرتهم معهم، وعاد من سلم من المعركة إلى واسط.

.ذكر الحرب بين قرواش وغريب بن مقن:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، اختلف قرواش وغريب بن مقن.
وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة، فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها، وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل، وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة، وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيق على من بها، وأهلها يطلبون منه الأمان، فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال.
فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه، ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم، وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه، ولم يتعرضوا إلى حلته وما له فيها، وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.

.ذكر خروج ملك الروم إلى الشام وانهزامه:

في هذه السنة خرج ملك الروم من القسطنطينية في ثلاث مائة ألف مقاتل إلى الشام، فلم يزل بعساكره حتى بلغوا قريب حلب، وصاحبها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على يوم منها، فلحقهم عطش شديد، وكان الزمان صيفاً، وكان أصحابه مختلفين عليه، فمنهم من يحسده، ومنهم من يكرهه.
وممن كان معه ابن الدوقس، ومن أكابرهم، وكان يريد هلاك الملك ليملك بعده، فقال الملك: الرأي أن نقيم حتى تجيء الأمطار وتكثر المياه. فقبح ابن الدوقس هذا الرأي، وأشار بالإسراع قصداً لشر يتطرق إليه، ولتدبير كان قد دبره عليه. فسار، ففارقه ابن الدوقس، وابن لؤلؤ في عشرة آلاف فارس، وسلكوا طريقاً آخر، فخلا بالملك بعض أصحابه وأعلمه أن ابن الدوقس وابن لؤلؤ قد حالفا أربعين رجلاً، هو أحدهم، على الفتك به، واستشعر من ذلك وخاف، ورحل من يومه راجعاً.
ولحقه ابن الدوقس، وسأله عن السبب الذي أوجب عوده، فقال له: قد اجتمعت علينا العرب وقربوا منا، وقبض في الحال على ابن الدوقس وابن لؤلؤ وجماعة معهما، فاضطرب الناس واختلفوا، ورحل الملك، وتبعهم العرب وأهل السواد حتى الأرمن يقتلون وينهبون، وأخذوا من الملك أربعمائة بغل محملة مالاً وثياباً، وهلك كثير من الروم عطشاً، ونجا الملك وحده، ولم يسلم معه من أمواله وخزائنه شيء البتة، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً.
وقيل في عوده غير ذلك، وهو أن جمعاً من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره، وظن الروم أنها كبسة، فلم يدروا ما يفعلون، حتى إن ملكهم لبس خفاً أسود، وعادة ملوكهم لبس الخف الأحمر، فتركه ولبس الأسود ليعمى خبره على من يريده، وانهزموا، وغنم المسلمون جميع كان معهم.

.ذكر مسير أبي علي بن ماكولا إلى البصرة وقتله:

لما استولى الملك جلال الدولة على واسط، وجعل ولده فيها، سير وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح والبصرة ليملكها، فملك البطائح، وسار إلى البصرة في الماء، وأكثر من السفن والرجال.
وكان بالبصرة أبو منصور بختيار بن علي نائباً لأبي كاليجار، فجهز جيشاً في أربعمائة سفينة، وجعل عليهم أبا عبد الله الشرابي الذي كان صاحب البطيحة، وسيره، فالتقى هو والوزير أبو علي، فعند اللقاء والقتال هبت ريح شمال كانت على البصريين ومعونة للوزير، فانهزم البصريون وعادوا إلى البصرة، فعزم بختيار على الهرب إلى عبادان، فمنعه من سلم عنده من عسكره، فأقام متجلداً.
وأشار جماعة على الوزير أبي علي أن يعجل الانحدار، ويغتنم الفرصة قبل أن يعود بختيار يجمع. فلما قاربهم، وهو في ألف وثلاثمائة عدد من السفن، سير بختيار ما عنده من السفن، وهي نحو ثلاثين قطعة، وفيها المقاتلة، وكان قد سير عسكراً آخر في البر، وكان له في فم نهر أبي الخصيب نحو خمسمائة قطعة فيها ماله، ولجميع عسكره من المال والأثاث والأهل، فلما تقدمت سفنه صاح من فيها، وأجابه من في السفن التي فيها أهلوهم وأموالهم، وورد عليهم العسكر الذي في البر، فقال الوزير لمن أشار عليه بمعالجة بختيار: ألستم زعمتم أنه في خف من العسكر، وأن معالجته أولى، ورأى الدنيا مملوءة عساكر؟ فهونوا عليه الأمر، فغضب، وأمر بإعادة السفن إلى الشاطيء، إلى الغد، ويعود إلى القتال.
فلما أعاد سفنه ظن أصحابه أنه قد انهزم، فصاحوا: الهزيمة؟؟! فكانت هي. وقيل: بل لما أعاد سفنه لحقهم من في سفن بختيار، وصاحوا: الهزيمة! الهزيمة! وأجابهم من في البر من عسكر بختيار، ومن في سفنهم التي فيها أموالهم، فانهزم أبو علي حقاً، وتبعه أصحاب بختيار وأهل السواد، ونزل بختيار في الماء، واستصرخ الناس، وسار في آثارهم يقتل ويأسر، وهم يغرقون، فلم يسلم من السفن كلها أكثر من خمسين قطعة.
وسار الوزير أبو علي منهزماً، فأخذ أسيراً، وأحضر عند بختيار، فأكرمه وعظمه، وجلس بين يديه، وقال له: ما الذي تشتهي أن أفعل معك؟ قال: ترسلني إلى الملك أبي كاليجار.
فأرسله إليه فأطلقه، فاتفق أن غلاماً له وجارية اجتمعا على فساد، فعلم بهما، وعرفا أنه قد علم حالهما، فقتلاه بعد أسره بنحو من شهر.
وكان قد أحدث في ولايته رسوماً جائرة، وسن سنناً سيئة، ومنها جباية سوق الدقيق، ومقالي الباذنجان، وسميريات المشارع، ودلالة ما يباع من الأمتعة، وأجر الحمالين الذين يرفعون التمور إلى السفن، وبما يعطيه الذباحون لليهود، فجرى في ذلك مناوشة بين العامة والجند.

.ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة وأخذها منهم:

لما انحدر الوزير أبو علي بن ماكولا إلى البصرة، على ما ذكرناه، لم يستصحب معه الأجناد البصريين الذين مع جلال الدولة، تأنيساً للديلم الذين بالبصرة، فلما أصيب، على ما ذكرنا، تجهز هؤلاء البصريون وانحدروا إلى البصرة، فوصلوا إليها، وقاتلوا من بها من عسكر أبي كاليجار، فانهزم عسكر أبي كاليجار، ودخل عسكر جلال الدولة البصرة في شعبان.
واجتمع عسكر أبي كاليجار بالأبلة مع بختيار، فأقاموا بها يستعدون للعود وكتبوا إلى كاليجار يستمدونه، فسير إليهم عسكراً كثيراً مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس، فقدموا إلى الأبلة، واجتمعوا مع بختيار، ووقع الشروع في قتال من بالبصرة من أصحاب جلال الدولة، فسير بختيار جمعاً كثيراً في عدة من سفن، فقاتلوهم، فنصر أصحاب جلال الدولة عليهم وهزموهم، فوبخهم بختيار، وسار من وقته في العدد الكثير، والسفن الكثيرة، فاقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم بختيار، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وأخذ هو فقتل من غير قصد لقتله، وأخذوا كثيراً من سفنه، وعاد كل فريق إلى موضعه.
وعزم الأتراك من أصحاب جلال الدولة على مباكرة الحرب، وإتمام الهزيمة، وطالبوا العامل الذي على البصرة بالمال، فاختلفوا، وتنازعوا في الإقطاعات، فأصعد ابن المعبراني، صاحب البطيحة، فسار إليه جماعة من الأتراك الواسطيين ليردوه، فلم يرجع، فتبعوه، وخاف من بقي بعضهم من بعض أن لا يناصحوهم، ويسلموهم عند الحرب، فتفرقوا، واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات، وقد كان خائفاً منهم، فجاءه ما لم يقده من الظفر، ونادى من بقي بالبصرة بشعار أبي كاليجار، فدخلها عسكره، وأرادوا نهبها، فمنعهم ذو السعادات.

.ذكر غزو فضلون الكردي الخزر وما كان منه:

كان فضلون الكردي هذا بيده قطعة من أذربيجان قد استولى عليها، وملكها، فاتفق أنه غزا الخزر، هذه السنة، فقتل منهم، وسبى، وغنم شيئاً كثيراً، فلما عاد إلى بلده أبطأ في سيره وأمل الاستظهار في أمره، ظناً منه أنه قد دوخهم وشغلهم بما عمله بهم، فاتبعوه مجدين، وكيسوه، وقتلوا من أصحابه والمطوعة الذين معه أكثر من عشرة آلاف قتيل، واستردوا الغنائم التي أخذت منهم، وغنموا أموال العساكر الإسلامية وعادوا.

.ذكر البيعة لولي العهد:

في هذه السنة مرضض القادر بالله، وأرجف بموته، فجلس جلوساً عاماً وأذن للخاصة والعامة فوصلوا إليه، فلما اجتمعوا قام الصاحب أبو الغنائم فقال: خدم مولانا أمير المؤمنين داعون له بإطالة البقاء، وشاكرون لما بلغهم من نظره لهم وللمسلمين، باختيار الأمير أبي جعفر لولاية العهد.
فقال الخليفة للناس: قد أذنا في العهد له، وكان أراد أن يبايع له قبل ذلك، فثناه عنه أبو الحسن بن حاجب النعمان. فلما عهد إليه ألقيت الستارة، وقعد أبو جعفر على السرير الذي كان قائماً عليه، وخدمه الحاضرون وهنأوه، وتقدم أبو الحسن بن حاجب النعمان فقبل يده وهنأه، فقال: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال} يعرض له بإفساده رأي الخليفة فيه، فأكب على تقبيل قدمه، وتعفير خده بين يديه والاعتذار. فقبل عذره، ودعي له على المنابر يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الأولى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة استوزر جلال الدولة أبا سعد عبد الرحيم بعد ابن ماكولا، ولقبه عميد الدولة.
وفيها توفي أبو الحسن بن حاجب النعمان، ومولده سنة أربعين وثلاثمائة، وكان خصيصاً بالقادر بالله، حاكماً في دولته كلها، وكتب له وللطائع أربعين سنة.
وفيها ظهر متلصصة ببغداد من الأكراد، فكانوا يسرقون دواب الأتراك، فنقل الأتراك خيلهم إلى دورهم، ونقل جلال الدولة دوابه إلى بيت في دار المملكة.
وفيها توفي أبو الحسن بن عبد الوارث الفسوي، النحوي، بفسا، وهو نسيب أبي علي الفارسي.
وفيها توفي أبو محمد الحسن بن يحيى العلوي، النهرسابسي، الملقب بالكافي، وكان موته بالكوفة.
وفيها، في رجب، جاء في غزنة سيل عظيم أهلك الزرع والضرع، وغرق كثيراً من الناس لا يحصون، وخرب الجسر الذي بناه عمرو بن الليث، وكان هذا الحادث عظيماً.
وفيها، في رمضان تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين، في غزنة، بألف ألف درهم، وأدر على الفقراء من العلماء والرعايا إدرارات كثيرة. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة:

.ذكر ملك مسعود بن سبكتكين التيز ومكران:

في هذه السنة سير السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكراً إلى التيز، فملكها وما جاورها.
وسبب ذلك أن صاحبها معدان توفي، وخلف ولدين أبا العساكر وعيسى، فاستبد عيسى بالولاية والمال، فسار أبو العساكر إلى خراسان، وطلب من مسعود النجدة، فسير معه عسكراً، وأمرهم بأخذ البلاد من عيسى، أو الاتفاق مع أخيه على طاعته، فوصلوا إليها، ودعوا عيسى إلى الطاعة والموافقة، فأبى وجمع جمعاً كثيراً بلغوا ثمانية عشر ألفاً، وتقدم إليهم، فالتقوا، فاستأمن كثير من أصحاب عيسى إلى أخيه أبي العساكر، فانهزم عيسى ثم عاد وحمل في نفر من أصحابه، فتوسط المعركة فقتل، واستولى أبو العساكر على البلاد، ونهبها ثلاثة أيام، فأجحف بأهلها.

.ذكر ملك الروم مدينة الرها:

في هذه السنة ملك الروم مدينة الرها، وكان سبب ذلك أن الرها كانت بيد نصر الدولة بن مروان، كما ذكرناه، فلما قتل عطير الذي كان صاحبها، شفع صالح بن مرداس، صاحب حلب، إلى نصر الدولة ليعيد الرها إلى ابن عطير، وإلى ابن شبل، بينهما نصفين، فقبل شفاعته، وسلمها إليهما.
وكان له في الرها برجان حصينان أحدهما أكبر من الآخر، فتسلم ابن عطير الكبير، وابن شبل الصغير، وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة، فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم، وباعه حصته من الرها بعشرين ألف دينار، وعدة قرايا من جملتها قرية تعرف إلى الآن بسن ابن عطير، وتسلموا البرج الذي له، ودخلوا البلد فملكوه، وهرب منه أصحاب ابن شبل، وقتل الروم المسلمين، وخربوا المساجد.
وسمع نصر الدولة الخبر، فسير جيشاً إلى الرها، فحصروها وفتحوها عنوة، واعتصم من بها من الروم بالبرجين، واحتمى النصارى بالبيعة التي لهم، وهي من أكبر البيع وأحسنها عمارة، فحصرهم المسلمون بها، وأخرجوهم، وقتلوا أكثرهم، ونهبوا البلد، وبقي الروم في البرجين، وسير إليهم عسكراً نحو عشرة آلاف مقاتل، فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم، ودخلوا البلد وما جاورهم من بلاد المسلمين، وصالحهم ابن وثاب النميري على حران وسروج وحمل إليهم خراجاً.

.ذكر ملك مسعود كرمان وعود عسكره عنها:

وفيها سارت عساكر خراسان إلى كرمان فملكوها، وكانت للملك أبي كاليجار، فاحتمى عسكره بمدينة بردسير، وحصرهم الخراسانيون فيها، وجرى بينهم عدة وقائع، وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار يطلبون المدد، فسير إليهم العادل بهرام بن مافنة في عسكر كثيف، ثم إن الذين ببردسير خرجوا إلى الخراسانية فواقعوهم، واشتد القتال، وصبوا لهم، فأجلت الوقعة عن هزيمة الخراسانية، وتبعهم الديلم حتى أبعدوا، ثم عادوا إلى بردسير.
ووصل العادل عقيب ذلك إلى جيرفت، وسير عسكره إلى الخراسانية، وهم بأطراف البلاد، فواقعوهم، فانهزم الخراسانية، ودخلوا المفازة عائدين إلى خراسان، وأقام العادل بكرمان إلى أن أصلح أمورها وعاد إلى فارس.

.ذكر وفاة القادر بالله وشيء من سيرته وخلافة القائم بأمر الله:

في هذه السنة، في ذي الحجة، توفي الإمام القادر بالله، أمير المؤمنين، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر، وخلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر وعشرون يوماً، وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك، فلما وليها القادر بالله أعاد جدتها، وجدد ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق، فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها.
وكان حليماً، كريماً، خيراً يحب الخير وأهله، ويأمر به، وينهى عن الشر ويبغض أهله، وكان حسن الاعتقاد، صنف فيه كتاباً على مذهب السنة.
ولما توفي صلى عليه ابنه القائم بأمر الله، وكان القادر بالله أبيض، حسن الجسم، كث اللحية، طويلها، يخضب، وكان يخرج من داره في زي العامة، ويزور قبور الصالحين، كقبر معروف وغيره، وإذا وصل إليه حال أمر فيه بالحق.
قال القاضي الحسين بن هارون: كان بالكرخ ملك ليتيم، وكان له فيه قيمة جيدة، فأرسل إلي ابن حاجب النعمان، وهو حاجب القادر، يأمرني أن أفك عنه الحجر ليشتري بعض أصحابه ذلك الملك، فلم أفعل، فأرسل يستدعيني، فقلت لغلامه: تقدمني حتى ألحقك، وخفته، فقصدت قبر معروف، فدعوت الله أن يكفيني شره، وهناك شيخ، فقال لي: على من تدعو؟ فذكرت له ذلك، ووصلت إلى ابن حاجب النعمان، فأغلظ لي في القول، ولم يقبل عذري، فأتاه خادم برقعة، ففتحها وقرأها وتغير لونه، ونزل من الشدة، فاعتذر إلي ثم قال: كتبت إلى الخليفة قصة؟ فقلت: لا. وعلمت أن ذلك الشيخ كان الخليفة.
وقيل: كان يقسم إفطاره كل ليلة ثلاثة أقسام: فقسم كان يتركه بين يديه، وقسم يرسله إلى جامع الرصافة، وقسم يرسله إلى جامع المدينة، يفرق على المقيمين فيهما، فاتفق أن الفراش حمل ليلة الطعام إلى جامع المدينة، ففرقه على الجماعة، فأخذوا، إلا شاباً فإنه رده.
فلما صلوا المغرب خرج الشاب، وتبعه الفراش، فوقف على باب فاستطعم، فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع، فقال له الفراش: ويحك ألا تستحي؟ ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فترده وتخرج وتأخذ من الأبواب! فقال: والله ما رددته إلا لأنك عرضته علي قبل المغرب، وكنت غير محتاج إليه، فلما احتجت طلبت، فعاد الفراش فأخبر الخليفة بذلك فبكى وقال له: راع مثل هذا، واغتنم أخذه، وأقم إلى وقت الإفطار.
وقال أبو الحسن الأبهري: أرسلني بهاء الدولة إلى القادر بالله في رسالة، فسمعته ينشد:
سبق القضاء بكل ما هو كائن، ** والله يا هذا لرزقك ضامن

تعنى بما يفنى، وتترك ما به ** تغنى، كأنك للحوادث آمن

أوما ترى الدنيا ومصرع أهلها، ** فاعمل ليوم فراقها، يا حائن

واعلم بأنك لا أبا لك في الذي ** أصبحت تجمعه لغيرك خازن

يا عامر الدنيا أتعمر منزلاً ** لم يبق فيه مع المنية ساكن

الموت شيء أنت تعلم أنه ** حق، وأنت بذكره متهاون

إن المنية لا تؤامر من أتت ** في نفسه يوماً ولا تستأذن

فقلت: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين لإنشاد مثل هذه الأبيات. فقال: بل لله المنة إذ ألزمنا بذكره، ووفقنا لشكره، ألم تسمع قول الحسن البصري في أهل المعاصي: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، ومناقبه كثيرة.